تونس لم تعد تحتمل أي تأخير في إنجاز منطقة التجارة الحرة مع ليبيا

لطالما اعتمدت المنطقة الحدودية التونسية الليبية حول مدينة بنقردان في جنوب شرق تونس على التجارة غير الرسمية العابرة للحدود. وقد تسامحت السلطات مع هذه الأنشطة باعتبارها تعزّز الاستقرار الاجتماعي في منطقة طرفية مهمّشة منذ فترة طويلة. لقد ازدهرت التجارة العابرة للحدود، الرسمية وغير الرسمية، لأكثر من عقدَين، خلال عهد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والزعيم الليبي معمر القذافي، لكنها تراجعت عقب انتفاضتَي 2010-2011 اللتَين اجتاحتا كلًّا من تونس وليبيا وأسفرتا عن إطاحة الرئيسَين.

وأدّت التطورات على جانبَي الحدود إلى تقلّص التدفقات التجارية. ففي ليبيا، أسفر احتدام الصراع بين المجموعات المسلحة في المناطق الغربية من البلاد بعد سقوط القذافي إلى تدهور الوضع الاقتصادي. وفي تونس، شملت الجهود التي بذلتها السلطات لضمان عدم انتقال اللااستقرار في ليبيا عبر الحدود تطبيق إجراءات أمن حدودية مُشدّدة بدءًا من العام 2014.

وأثّرت هذه العوامل سلبًا على المناطق الحدودية في جنوب شرق تونس. وتسبّبت التحديات الناجمة عنها ببروز حركات احتجاجية متكرّرة في بنقردان، وبتفاقم التظلمات الشعبية الناتجة عن تهميش هذه الجهة.

ومن المقرّر أن تتولّى منطقة التجارة الحرة تقديم خدمات التخزين والحفظ والتوزيع، وأن تعمد في الدرجة الأولى إلى إعادة تصدير السلع المستوردة إلى كلٍّ من ليبيا ودول أفريقية أخرى وإلى أوروبا.

و يرى حمزة المؤدّب، الباحث غير مقيم في مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط في تقرير نشره المعهد إنه من شأن هذه المنطقة، التي تقع على بعد 45 كيلومترًا من ميناء جرجيس و90 كيلومترًا من مطار جربة، أن تحقّق طموحات الحكومات المتعاقبة بعد العام 2011 الرامية إلى تحويل جنوب شرق تونس إلى مركز تجاري ولوجستي. لكن يتعيّن على منطقة التجارة الحرة في بنقردان الاستثمار في مساحات التخزين والبنى التحتية عالية الجودة والمرافق التي تقدّم خدمات لوجستية، كي تكون قادرة على المنافسة وجذب الاهتمام.

ولابدّ من أن تقدّم للمستثمرين مجموعة من التنظيمات والحوافز الملائمة، كضرائب أقل، وأنظمة جمركية خاصة، ونظام عملة مرن.

وعلى الرغم من الدعم الحكومي الذي يحظى به المشروع، لايزال التقدّم بطيئًا. فقد أعلنت الحكومة في العام 2019 أن منطقة التجارة الحرة ستكون جاهزة في العام 2021. لكن حتى أغسطس 2022، لم يجرِ افتتاحها بعد، ومن المتوقّع أن يستمر التأخير في إتمام المشروع.

ويُعزى الفشل في تنفيذ مشروع منطقة التجارة الحرة إلى عوامل عدّة، بما فيها المقاومة المؤسّسية في تونس، والانقسامات السياسية في كلٍّ من تونس وليبيا، والقضايا الجيوسياسية، التي تقوّض جميعها المحاولات الرامية إلى تطوير المنطقة الحدودية.

ويقف مشروع منطقة التجارة الحرة اليوم عند مفترق طرق، وإن تواصلت العقبات، ستدفع تونس باهظًا ثمن ذلك، إذ يشكّل التأخّر في إضفاء الطابع الرسمي على التجارة غير الرسمية فرصًا ضائعة على مستوى التجارة عبر الحدود في وقتٍ تحتاج تونس إلى زيادة عائداتها.

وسيستمر تفاقم التظلمات الاجتماعية التي يرزح تحت وطأتها سكان الحدود، ما يؤجّج حالة اللااستقرار ويجرّد السلطات السياسية من شرعيتها. وكذلك، من شأن حالة الجمود المستمرة أن تُفقد المشروع جدواه باطّراد، إذ سبق أن بدأت مدن في غرب ليبيا الاستثمار في بناء مناطق تجارة حرة خاصة بها. ولا تستطيع تونس تحمّل مثل هذه التداعيات نظرًا إلى أنها تتخبّط في أزمة اقتصادية خطيرة.

لطالما كانت التجارة غير الرسمية العابرة للحدود قوّةً محرّكة للاقتصاد التونسي، إذ تؤدّي دورًا مهمًا في سلاسل الإمداد. فمن خلال توفير النفط والسلع الرخيصة الثمن من ليبيا، عزّزت التجارة غير الرسمية الاستقرار الاجتماعي في جنوب شرق تونس الذي يعاني قصورًا فادحًا في التنمية.

وأرغمت الانتفاضات في تونس وليبيا، من خلال وضع حدٍّ للترتيبات الحدودية القديمة وإحداث خلل في الاقتصاد الحدودي، الحكومات التونسية المتعاقبة على إعادة النظر في خياراتها والتأقلم مع وضع غير مؤاتٍ إطلاقًا.

ومنذ أن تداعى بنيان ليبيا كدولة موحّدة عَقِب اندلاع الحرب الأهلية فيها في العام 2014، واجهت المناطق الحدودية التونسية ثلاثة تحديات كبرى تقاطعت على نحو مطّرد: الأول هو أن تشظّي المشهد الأمني في غرب ليبيا أدّى إلى اشتباكات متفرّقة بين الميليشيات، وإقفال متكرّر لمعبر رأس جدير الحدودي. وأعاق ذلك مسار التجارة وأسفر عن مضاعفات كارثية على التجار التونسيين الذين يزوّدون سوق بنقردان بالسلع، ما قذفهم في دوامة من الشك واللايقين.

وتمثّل التحدي الثاني في أن الأزمة المصرفية الليبية، التي نشبت في العام 2016 بفعل هبوط إنتاج النفط وعائداته، جعلت التجار التونسيين أكثر عرضةً للتأثُّر بتقلبات بيئة الأعمال في ليبيا. وتفاقم هذا الوضع بسبب تكثيف الجهود المبذولة لمكافحة التهريب في ليبيا ضد السلع المدعومة، ما أضعف قدرة المجتمعات الحدودية على الصمود، نظرًا إلى أنها تعتمد على التجارة عبر الحدود لكسب رزقها.

وتسبّب وقف إنتاج النفط بسبب الحرب الأهلية، فضلًا عن انخفاض أسعار النفط خلال السنوات التي سبقت تفشّي وباء كوفيد-19، بوقوع أزمة نقدية وتراجع عائدات الدولة واحتياطياتها من العملة الصعبة.27 علاوةً على ذلك، تزايد استخدام الاعتمادات المستندية المزوّرة لنقل الأموال إلى خارج ليبيا، من دون تزويد السوق الليبي بالسلع، ما قوّض الاقتصاد الحدودي وقلّص إلى حدٍّ كبير تدفّق السلع من ليبيا إلى تونس.

وأما التحدي الثالث فهو أن المقاربة المشدّدة التي انتهجتها السلطات التونسية للحؤول دون انتقال تداعيات النزاع الليبي إلى تونس، أسفرت عن إغلاق متكرّر لمعبر رأس جدير.

وأفضى ذلك إلى تدهور أكبر للظروف الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الحدودية، وزاد تفشّي وباء كوفيد-19 الطين بلّة. ودفعت المخاوف الأمنية، إلى جانب غياب التنمية وتراجع العائدات المتأتية من التجارة غير المشروعة، السلطات إلى البحث عن طرق استراتيجية لمعالجة هذا الوضع.

وتتكبد تونس خسائر على مستوى العائدات لا يُستهان بها، نظرًا إلى تدهور اقتصادها الكلّي منذ عقد من الزمن.

ومنذ العام 2011، تواجه مجموعة من المشاكل الاقتصادية، تشمل تراجع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع معدّلات البطالة، وتدنّي مستويات الاستثمار.

العوائق

بعد مرور عقد على الإعلان عن مشروع منطقة التجارة الحرة في بنقردان، لم يتحقق أي تقدّم يُذكَر على مستوى التنفيذ.

ويُعزى إخفاق الحكومات التونسية ما بعد 2011 في التحرك سريعًا على هذه الجبهة إلى الشوائب المفهومية، وكذلك إلى عوامل داخلية ودولية تفاقمت بسبب غياب الاستقرار السياسي وأجواء الالتباس التي عاشتها تونس خلال العقد المنصرم.

واشتملت العوامل الداخلية على المشاكل المرتبطة باستملاك الأراضي وحقوق الملكية في الموقع حيث ستُقام منطقة التجارة الحرة، بالإضافة إلى المقاومة المؤسّسية والمنافسة على صعيد النخب. فالنخب السياسية والاقتصادية في المناطق الساحلية التونسية تعارض الخطوات الهادفة إلى دمج نخب المناطق الطرفية التي ظهرت من خلال التجارة غير الرسمية.

وأما على الصعيد الدولي، وبما أن الحكومات التونسية لم تقم بإعداد نموذج جاذب لمنطقة التجارة الحرة، ما تسبّب بتأخير اختيار شريك إستراتيجي للمشروع، فهي لم تتمكّن من حجز موقع مؤاتٍ لتونس ضمن بيئة إقليمية وعالمية تنطبع على نحو متزايد بالتنافس السياسي والاقتصادي بين الدول. وتهدّد هذه التأخيرات بجعل منطقة التجارة الحرة مشروعًا لا لزوم له.

ولا يزال على تونس إعداد إطار عمل تنظيمي وتحفيزي جاذب خاص بمنطقة التجارة الحرة من أجل استقطاب روّاد الأعمال التونسيين والليبيين.

وفي العادة، تمنح مناطق التجارة الحرة الأكثر نجاحًا حول العالم، مثل جبل علي في الإمارات العربية المتحدة، الشركات والمشغّلين مزايا مثل الإعفاءات من سداد الضرائب على الدخل والأعمال لفترة طويلة، والقدرة على تحويل جميع أرباحها بحرّية إلى الخارج، وغياب القيود على صرف العملات الأجنبية.

وبالمثل، سيتوقف نجاح منطقة التجارة الحرة في بنقردان أو فشلها على نموذجها في الأعمال وقدرتها على جذب المستثمرين من خلال تقديم إعفاءات ضريبية، وخفض معدّلات الضرائب، واعتماد تنظيمات جمركية خاصة، ووضع إطار عمل ذي مصداقية لاستيعاب الاقتصاد غير الرسمي.

ويتطلب إضفاء الطابع الرسمي على التجارة غير الرسمية أيضًا تشجيع روّاد الأعمال في المناطق الطرفية الذين يعملون عند الحدود على تسجيل أعمالهم، والحصول على تراخيص للاستيراد، وتنظيم التجارة عبر الحدود.

ولكن بعد مرور عشر سنوات، لا تزال الأعمال والشركات تنتظر أن تحسم الحكومة قرارها بشأن النظام الضريبي. فالشركة التي ستشغّل منطقة التجارة الحرة أُنشِئت منذ فترة وجيزة، في مارس 2022، ولا تزال بحاجة إلى شريك خارجي مستعد للاستثمار في المنطقة الحرة.

ولا تزال أجواء الالتباس في الجانب الليبي من الحدود تتسبّب بالتأخير. وينمّ ذلك كلّه عن عدم التزام بالمشروع، إنما أيضًا عن رؤى متضاربة بشأن مستقبل منطقة التجارة الحرة.

ومن الضروري وضع حدٍّ لهذا التقاعس كي تتمكن تونس من الاستفادة من عائدات التجارة عبر الحدود، وكي يسود الاستقرار في المناطق الطرفية في البلاد.

ويُعدّ الإطار التنظيمي والتحفيزي أساسيًا لمنطقة التجارة الحرة كي تمارس تأثيرًا إيجابيًا على المناطق المجاورة لها من خلال تحفيز سلاسل الإمداد واستحداث فرص العمل.

ويقتضي تحويل جنوب شرق تونس إلى مركز لوجستي تفكيرًا طويل الأمد يُدرِج منطقة التجارة الحرة وميناء جرجيس في إطار التطوير الأوسع للمناطق الطرفية.

المصدر: جريدة العرب