على الرغم من صدور عدة مذكرات توقيف أوروبية بحقه.. القضاء اللبناني يمنع رياض سلامة من السفر

خضع رياض سلامة أمس الأربعاء لجلسة استجواب أمام قاضي التحقيق اللبناني، تقرر بنهايتها مصادرة جوازات سفره (اللبناني والفرنسي) ومنعه من السفر. الخطوة جاءت بعد تسلم السلطات اللبنانية إشارة من الإنتربول بشأن ضرورة تسليم سلامة، المطلوب بموجب مذكرة توقيف فرنسية.

وكانت القاضية الفرنسية المكلفة بالتحقيق في أموال وممتلكات حاكم مصرف لبنان في أوروبا أود بوروزيه، قد أصدرت مذكرة توقيف دولية بحق سلامة البالغ 72 عاما، في 16 من الشهر الجاري، عقب تغيبه عن جلسة استجواب في باريس.

وعلى خطى فرنسا، تبلغ لبنان من السلطات الألمانية مذكرة توقيف أخرى بحق حاكم المصرف المركزي لنفس الأسباب.

بيار أوليفييه سور، محامي رياض سلامة في فرنسا، قال لوكالة الأنباء الفرنسية إن تغيب موكله عن جلسة الاستجواب في باريس جاء نتيجة “عدم تبليغه بوجوب المثول أمام القضاء الفرنسي وفقا للأصول”.

من جهة أخرى، يواجه سلامة في لبنان تحقيقا مشابها، حيث كان النائب العام في لبنان غسان عويدات قد ادعى عليه في شباط/فبراير الماضي بتهم الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال.

وخلافا لما حصل مع القاضية الفرنسية، حضر سلامة الأربعاء 24 أيار/مايو جلسة استجواب أمام المدعي العام التمييزي القاضي عماد قبلان، الذي قرر بنهاية الجلسة إطلاق سراحه مع إبقائه رهن التحقيق، ومصادرة جوازات سفره لمنعه من مغادرة البلاد.

مصدر مطلع على الملف أفاد بأن جلسة الاستجواب استمرت أكثر من ساعة، أجاب خلالها سلامة، الذي كان حاضرا دون محاميه، على جملة من الأسئلة.

وعقب الجلسة، اعتبر سلامة أن مذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحقه غير قانونية، ونفى التهم التي استند عليها القضاء الفرنسي لإصدار المذكرة.

وأصدرت فرنسا مذكرة التوقيف في إطار تحقيقاتها بشأن اختلاس حاكم مصرف لبنان أكثر من 300 مليون دولار من أموال مصرف لبنان المركزي.

المصدر أضاف أن سلامة اعتبر أن مذكرة التوقيف الفرنسية “غير قانونية”، دافعا بأدلة حول مصادر ثروته المالية والعقارية، مؤكداً أنه “جمعها من استثماراته الخاصة قبل تعيينه حاكما لمصرف لبنان ومن راتبه جراء عمله في مؤسسة ميريل لينش المالية”، وأنه طلب من النائب العام “محاكمته في لبنان وعدم تسليمه إلى فرنسا”.

تحقيق جنائي في عدة دول أوروبية

يخضع سلامة للتحقيق في عدة دول أوروبية، حيث يشتبه المحققون في أنه راكم أصولا عقارية ومصرفية عبر مخطط مالي معقد، فضلا عن إساءة استخدام أموال عامة لبنانية خلال توليه حاكمية مصرف لبنان منذ أكثر من ثلاثة عقود.

لهذه الغاية، زار محقّقون من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ بيروت ثلاث مرات خلال العام الحالي، حيث استمعوا إلى مدراء مصارف وموظفين حاليين وسابقين في مصرف لبنان، كما استجوبوا سلامة في آذار/مارس.

وتركّز التحقيقات الأوروبية على العلاقة بين مصرف لبنان وشركة “فوري أسوشييتس” المسجّلة في الجزر العذراء ولها مكتب في بيروت، والمستفيد الاقتصادي منها شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة. ويُعتقد أن الشركة أدت دور الوسيط لشراء سندات خزينة و”يوروبوند” من مصرف لبنان عبر تلقّي عمولة اكتتاب، تم تحويلها إلى حسابات شقيق الحاكم في الخارج.

وجمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ قبل عام 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدف سلامة وأربعة من المقربين منه، بينهم شقيقه، بتهم غسل أموال و”اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021″.

“التحقيق مع سلامة سيكشف تورط سياسيين لبنانيين”

لكن بهذه الخطوة، أي منع سلامة من مغادرة الأراضي اللبنانية، يكون القضاء في البلد الذي يعاني من أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، قد حسم خياره لعدم تسليم سلامة، على الرغم من المحاذير العديدة التي أطلقها خبراء ومراقبون لتلك الخطوة ومنها مقاطعة المؤسسات المالية العالمية للمصرف المركزي وبالتالي توقف أي أمل بمساعدة مالية في المدى المنظور.

المحامي اللبناني كريم ضاهر اعتبر أن منع سلامة من السفر “يأتي بهدف منعه من المثول أمام أجهزة قضائية أجنبية”. وأضاف ضاهر “بات (سلامة) رهينة النظام اللبناني الفاسد، باعتبار أن لا مصلحة للسياسيين اللبنانيين بأن يحاكم في الخارج ويدلي بما لديه، خوفا من كشف ملفات أخرى”.

واعتبر المحامي المتابع للملف أن “التحقيقات في فرنسا ليست ضد رياض سلامة شخصيا، بل ضد ‘مجموعة أشرار‘ أدت ممارساتها إلى وصول الوضع الاقتصادي في لبنان إلى ما هو عليه، وبالتالي يخشى القيمون على المنظومة السياسية أن تثبت التحقيقات تورطهم… سيبقى (سلامة) كاتم أسرارهم… ولن يتعاون مع القضاء الأجنبي وهناك مخاوف جدية من إنهاء القضية”.

“القضاء اللبناني بات المحامي الفعلي عن سلامة”

مخاوف ضاهر تجد صدى في مواقف عدد من الجهات والمجموعات والهيئات اللبنانية، التي تتهم سلامة بالمسؤولية المباشرة عما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية في البلاد، بسبب السياسات النقدية التي اتبعها على مدار 30 عاما والتي أدت إلى تثبيت سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي، لكنها راكمت ديونا طائلة على البلاد. في المقابل دافع سلامة عن نفسه مرارا بالتأكيد على أن المصرف المركزي قام، خلال ولايته، بتمويل مشاريع الدولة اللبنانية، وأنه لم يقم بصرف أي أموال، مرجعا الكرة إلى ملعب الحكومة بشأن المسؤولية عن الانهيار.

أوساط لبنانية عدة اعتبرت أن التطورات الأخيرة في هذا الملف تثير المخاوف من أداء القضاء اللبناني لمحاولة تمييع التحقيق، متهمة السلطات السياسية في البلاد بالتدخل في القضاء وتشجيع ثقافة الإفلات من العقاب.

في هذا الإطار، اعتبر الصحافي اللبناني تمّام نور الدين أن القضاء اللبناني بات بموقع “محامي رياض سلامة، إذ إنهم استخدموا هذه الحيلة (سحب جوازات السفر) لحمايته من المساءلة في الخارج”.

وأكد نور الدين أنه “بعيدا عما حصل، وعلى الرغم من منعه من السفر، إلا أن المعطيات التي انطلق منها القضاء الفرنسي في قضيته ضد سلامة تثبت تورطه”.

وشدد الصحافي المتابع للشؤون الأوروبية على أن “سلامة هو صندوق أسرار المنظومة الحاكمة في لبنان. لا يريدونه أن يخضع للتحقيق في الخارج خوفا من مساءلته عن الـ130 مليار دولار التي اختفت في عهده، مع أن القضية في فرنسا مرتبطة حصرا بمخالفات قام بها سلامة على أراضيها”.

وأضاف “قصة سلامة باتت تشبه إلى حد بعيد قصة مدام كلود الشهيرة”.

وذاع اسم مدام كلود في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في عالم بنات الهوى في العاصمة الفرنسية، حيث كان من زبائنها رؤساء دول ووزراء ونواب وسياسيون. وكانت الاستخبارات الفرنسية قد استعانت بخدماتها مرات عديدة للحصول على معلومات من هؤلاء الزبائن. أحد قادة الشرطة الفرنسية السابقين اعتبر في حديث مع وكالة الأنباء الفرنسية أنها “بوفاتها ستأخذ معها الكثير من الأسرار. كانت أسطورة”.

المصدر: فرانس 24