كنيسة غزة… إسرائيل لا تستثني بيوت العبادة من القصف
عند حوالي الساعة العاشرة من مساء أول من أمس الخميس، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي كنيسة القديس برفيريوس، وهي أقدم كنيسة في المدينة للروم الأرثوذكس في قطاع غزة. وتعتبر ثالث أقدم الكنائس في العالم وبُنيت في القرن الخامس الميلادي، بحسب بيان أصدرته بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس.
وإثر القصف، ارتقى 18 شهيداً كانوا يتخذون من الكنيسة مكاناً للاحتماء من العدوان، فيما لا يزال هناك 15 مفقوداً تحت الأنقاض. كذلك أصيب عشرات المسيحيين والمسلمين الذين احتموا في الكنيسة التي تتوسط البلدة القديمة وسط مدينة غزة، وكانت توفر حماية لسكان حي الزيتون من المنطقة المجاورة لها، وكانت تضم أكثر من 500 غزي اتخذوا من المبنى المكون من طبقتين في الكنيسة ملجأ لهم، بعد إخلاء منازلهم أو تضررها.
أول المصابين الذين وصلوا إلى مستشفى الشفاء في غزة هو فؤاد عياد (35 عاماً). نزل من سيارة الإسعاف وراح يصرخ أمام الجميع ويطلب نجدة الضحايا. انهار المبنى فوق رؤوس الموجودين فيه. كان يقول أمام الكاميرات: “قتولنا وهم لا يعرفون الدين الإسلامي ولا المسيحي وحتى اليهودي. أنا مسيحي من غزة، لا أحد يحميني. كما لا يحمي أحد سكان غزة ككل”.
قضى عياد ليلته برفقة أسرته التي أصيب جميع أفرادها. إصابة والدته في الرأس كانت بالغة، لكن الطواقم الطبية استطاعت إغاثتها. ويشير إلى أنه كان من بين المتطوعين في الكنيسة الذين استقبلوا عائلات مسيحية ومسلمة ووفّروا الحماية لها. كما تعرض منزله ومنزل أقاربه في مختلف مناطق غزة لأضرار بالغة من جراء القصف الإسرائيلي.
يقول عياد لـ “العربي الجديد”: “قصفوا بيتنا حين كنت وأفراد عائلتي بداخله. قصفوا منازل أقاربنا حالنا حال جميع أهل غزة. كل من هو في غزة وغزاوي يمسح من السجل المدني. دُمّرت عشرات المنازل للمسيحيين في غزة في مناطق الرمال وتل الهوا وأنصار على وجه الخصوص. يعرفون أن الكنيسة تحمي المسلمين حالياً، إذ لديهم أجهزة استخبارات وطائرات استطلاع تعمل على مدار الساعة”.
آخر الصلوات التي أقيمت في الكنيسة وسط العدوان الإسرائيلي كانت يوم الأحد الماضي في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. أقيمت صلاة السحر والقداس الإلهي، وحضرت الصلاة عائلة عياد، إحدى أعرق العائلات المسيحية في قطاع غزة. يقول: “كانوا يدعون لجميع الفلسطينيين”، مضيفاً أن عدداً من أفراد عائلته “كانوا قد استشهدوا خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، بالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي الحالي والمستمر”.
أحد الغزيين من المسلمين الذي كان وأسرته يتخذون من الكنيسة مأوى آمناً لهم، ويدعى سمير ساق الله (41 عاماً)، يوضح أنه كان يقيم في حي الزيتون وتربطه علاقة وثيقة مع عدد من المسيحيين في المنطقة. أحد أصدقائه المسيحيين طلب منه القدوم إلى منزله في تل الهوا للاحتماء داخل أحد الأبراج. لكن شاء القدر أن تضرر المنزل بسبب القصف. يقول لـ “العربي الجديد”: “ليس في الكنيسة أية سلاح. حتى الحارس لا يحمل سلاحاً. لا تشكل أي خطر. في هذه المنطقة، يعيش المسلمون والمسيحيون جنباً إلى جنب منذ سنوات طويلة، إلا أن الاحتلال يرغب في قتل كل من هو غزي وإخضاعه لسياسة العقاب الجماعي ليس أكثر. اعتقد البعض أننا آمنون في هذا المكان”.
يضيف ساق الله: “على الرغم من أنني أعرف تماماً الأضرار التي ألحقت بالكنيسة في عدوان عام 2014، إلا أنني لم أتوقع ذلك. هدم مبنى من طابقين حيث كان يحتمي مئات الناس. كمسلمين، كنا نقيم صلواتنا داخل الكنيسة وندعو نفس الرب. هم لا يعرفون قيمة هذا المكان الملاصق للمسجد. لكن لا كنيسة ولا مسجد يمكن أن يحمينا الآن”.
داخل البلدة القديمة، بُني أول مسجد ملاصق للكنيسة في فلسطين، حيث أجراس الكنيسة تلاصق مئذنة مسجد كاتب ولاية العتيق الذي بُني عام 1432 كما يذكر كتاب غزة وقطاعها للمؤرخ الغزي سليم المبيض. وسقط شهداء من عائلات غزية مسيحية عريقة، منها عائلة العمش والصوري وترزي. إحدى الناجيات يارا أبو داوود كانت شاهدة على اللحظات الأخيرة لصديقتيها يارا وفيولا العمش. تشاركت معهما في الكثير من المبادرات الاجتماعية والدينية والموسيقية.
وتقول إن الكثير من أفراد عائلتها وغيرهم من المسيحيين في قطاع غزة هاجروا إلى بلدان أوروبية وأميركا وأستراليا في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة وتقييد حرية التنقل والعبادة. وبحسب بيانات مؤسسات مسيحية في غزة، فإن أعداد المسيحيين في القطاع تناقصت بفعل الهجرة، بعدما كان عددهم عام 2000 قد تجاوز خمسين ألفاً. لكن في الوقت الحالي، لا يزيد عددهم عن نحو ألفي شخص”.
تقول أبو داوود لـ “العربي الجديد”: “اليوم لا سلام للهلال والصليب على هذه الأرض المقدسة، إذا كان العدو يؤمن بما أنزل به التوراة فلن يرضى الله عنهم بهذه العدالة. نحن هنا نحب السلام والإيمان ونمارس كل الخير في ما بيننا. لكن عدونا لا يعرف الدين ولا السلام. اليوم ودعت صديقات لي، منهم يارا جريس العمش وطفليها وشقيقتها فيولا جريس العمش وطفلها وزوجها إلى الديار السماوي”.
واستنكرت بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس قصف طيران الاحتلال الإسرائيلي الذي طاول كنيستها، وذكرت أن استهداف الكنائس والمؤسسات التابعة لها، بالإضافة إلى الملاجئ التي توفرها لحماية المواطنين الأبرياء، وخصوصاً الأطفال والنساء، يشكل جريمة حرب لا يمكن تجاهلها، في ظل أن الكنائس مصممة على مواصلة أداء واجبها الديني والأخلاقي بتقديم المساعدة والدعم والمأوى للأشخاص الذين يحتاجون إليها. وقالت ومسؤولين بقطاع الصحة الفلسطيني إن ضربة جوية إسرائيلية أصابت كنيسة القديس برفيريوس في غزة التي تؤوي المئات من النازحين الفلسطينيين.
وخلال العدوان الإسرائيلي عام 2014، استقبلت كنائس نازحين من حي الشجاعية وحي الزيتون في غزة، علماً أنها لم تسلم من العدوان. وتعرضت كنيسة برفيريوس لأضرار عندما قصفت مبنى ومقبرة تابعة للكنيسة، كما استهدفت الكنائس الأخرى مثل كنيسة غزة المعمدانية التي أصيبت بأضرار كبيرة من جراء قصف محطة للشرطة قريبة من الكنيسة في ذلك الوقت. وخلال العدوان الحالي، تضررت نفس الكنيسة الملاصقة للمستشفى المعمداني، كما أصيبت بنايات ملحقة بكنيسة غزة اللاتينية خلال عدوان 2014.
وفي غزة ثلاث كنائس في البلدة القديمة وسط مدينة غزة، وهي كنيسة القديس برفيريوس التابعة لكنيسة الروم الأرثوذكس، وكنيسة العائلة المقدسة للاتين (غزة) التابعة للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والكنيسة المعمدانية الإنجيلية وهي كنيسة بروتستانتية.
ويمنع الاحتلال مسيحيي غزة من الحصول على تصاريخ لزيارة الأماكن المقدسة في بيت لحم وعيش الأعياد مع الأقارب في الداخل الفلسطيني والضفة الغربية، علماً أن عدداً كبيراً من مسيحيي غزة يقيمون في الضفة الغربية.
وتشير بيانات مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي رفضت طلبات 331 مسيحياً من أصل 765 تقدموا بتصريح لمغادرة قطاع غزة نحو مدينة بيت لحم في ديمسبر/ كانون الأول الماضي، لأسباب أمنية بمعظمها، فيما لا يزال البعض ينتظر الرد حتى اليوم. ويمنع البعض من الحصول على تصاريح منذ سنوات.
فؤاد عياد ووالدته سهام عياد من الذين منعهم الاحتلال الإسرائيلي من الحصول على تصريح بالذهاب إلى بيت لحم. ويقول إن المرة الأخيرة التي زار فيها مدينة بيت لحم كانت نهاية عام 2006، لكنه لم يحصل على تصريح زيارة منذ عام 2007 وحتى اليوم. ويقول: “لا أعلم لماذا نشكل خطراً عليهم. أنا وأمي مسالمان في غزة ولا ننتمي لأي فصيل. لدي خالات وشقيقة في مدينة يافا المحتلة عام 1948”.
يشار إلى أن حصيلة الشهداء في قطاع غزة من جراء القصف الإسرائيلي المكثف والمستمر منذ السابع من أكتوبر ارتفع إلى 4137، بالإضافة إلى إصابة 13162 آخرين بجروح، بحسب وزارة الصحة.
المصدر: العربي الجديد