انتشار الأمراض بين المسنين والأطفال النازحين بجنوب قطاع غزة ينذر بالموت البطيء

لم يتمكن الفلسطيني منار سليمان من تشخيص حالة ابنه محمد (9 أشهر) الذي ظهر الاحمرار على جسده الصغير منذ خمسة أيام وانتشرت به الحبوب..

فسليمان عاجز عن التواصل مع أطباء مختصين بالأمراض الجلدية أو أمراض الأطفال مع انقطاع الاتصالات وانشغال الأطباء بجرحى حرب غزة في مستشفى ناصر الأقرب لمكان نزوحه بمنطقة المواصي غرب خان يونس في جنوب قطاع غزة.

والصغير لا يكف عن البكاء والصراخ، ولا يقبل الرضاعة الطبيعية، ولم تفلح معه محاولات الحمل والمداعبة، حتى أن أبويه باتا يعطيانه بعض المهدئات أحيانا حتى يهدأ ويقبل شرب قليل من الماء أو تزويد جسده الضعيف بقليل من المحلول الصحي.

يعيش الطفل مع عائلته المكونة من الأب والأم وثلاث بنات أكبرهن لم تتجاوز التاسعة، ومع عائلات أعمامه وبعض أخواله في خيم صغيرة نُصبت داخل دفيئة زراعية، عبارة عن هيكل حديدي مغطي بالنايلون على أرض زراعية تم خلع الشتلات منها، في مكان مزدحم يزيد عدد قاطنيه عن 90 فردا نزحوا جميعا من شمال خان يونس الذي يتعرض لاجتياح بري واسع للجيش الإسرائيلي منذ أسبوعين.

وتعتقد العائلة أن الأمراض الجلدية التي أصابت طفلهم جاءت نتيجة عدوى انتقلت إليه من أطفال أقاربه الذين يقضي معهم جل وقته، خصوصا مع ازدحام المكان بصورة كبيرة وإغلاقه بالنايلون من أعلي ومن الجوانب، ما يعني قلة التهوية، فضلا عن محدودية النظافة الشخصية اليومية وندرة الاستحمام نظرا لشح المياه.

يظل محمد على هذا المنوال لأيام، فيحمله والده إلى طبيب عام نازح بذات المنطقة ليجد عنده عشرات الأطفال حالتهم تشبه حالة ابنه، في خيمة لا يتوفر فيها سوى بعض الأدوات البسيطة والأدوية المحدودة، دون توفر وسائل التشخيص والفحص الدقيق، ما يُصعّب على الطبيب مهمته.

ينتظر الأب نحو ساعة حتى يأتي دوره لفحص ابنه ظاهريا بلا أدوات، ويزوّده الطبيب العام بقليل من الأدوية التي جلبها معه من أماكن صحية، ويعطيه كثيرا من التوصيات الخاصة بالنظافة الشخصية والعامة والتهوية ونحو ذلك. يعود سليمان حاملا ابنه الهزيل إلى خيمته القريبة وكله رجاء أن تخف آلامه ويعود تدريجيا لحالته قبل النزوح.
* والمسنون أيضا

في منطقة المواصي بمدينة خان يونس لا توجد مراكز صحية باستثناء بعض الأطباء الذين تطوعوا لخدمة آلاف النازحين.

ويقول سليمان (38 عاما) إن أطفاله الأربعة أصيبوا بأمراض مختلفة بعد يومين من نزوحهم، ولم يتمكن من نقلهم للمستشفى لمخاطر الطريق الجمة جراء استمرار القصف من جهة، وعدم تفرغ الأطباء وازدحام المستشفيات واحتمال تعرضهم لأمراض جديدة داخلها من جهة أخرى.

وبينما يؤكد سليمان، هو اختصاصي أشعة، أن كل الأطفال في محيطه تقريبا يعانون أمراضا متنوعة نتيجة أوضاع النزوح الصعبة التي تفتقر للمسكن والمأكل والمشرب وفرص العلاج، لا يستبعد بلوغ مراحل خطيرة إذا طال النزوح.

وإذا كان الحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين تنتشر بينهم أمراض متنوعة، لا يسلم كبار السن أيضا مع غياب الحد الأدنى من الرعاية الشخصية والصحية في أماكن النزوح، خصوصا بالنسبة لأصحاب الأمراض المزمنة كالضغط والسكري والقلب والكلى، ممن يُحرمون من الوصول للمستشفيات القريبة أو الحصول على أدويتهم إلا القليل منها وبشق الأنفس.

الحاجة أم سليمان إبراهيم (76 عاما) مريضة بالقلب والضغط، ولم تتناول ثلاثة أصناف من أدويتها الخمسة نظرا لنفادها من المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية وعدم توفرها في الصيدليات الخارجية خصوصا بعد إغلاق معظمها نتيجة اجتياح الجيش الإسرائيلي معظم بلدات ومناطق محافظة خان يونس.

أبناء أم سليمان فتشوا عن أدويتها بين بضع صيدليات ما زالت تعمل في مدينة خان يونس، وحين عجزوا عن إيجادها انتقلوا إلى دير البلح شمالها ورفح جنوبها، وبالكاد وجدوا صنفين وبكمية محدودة للغاية.

تخشى الحاجّة الموت البطيء، فأوضاعها الصحية لا تنتظم إلا بتناول هذه الأدوية بذات الكمية وفي مواعيد محددة. وتقول وهي تسند ظهرها إلى عمود خيمتها “لم أتخيل الوصول إلى مرحلة لا يتوفر فيها الدواء لتتهدد حياتنا بالموت بعد أن نجونا من القصف حتى الآن. لا نعرف كيف سنحصل على الأدوية عند نفادها بعد أقل من أسبوعين”.

تضيف “أشعر وكثيرون من أمثالي أننا ننتظر لحظة الموت في أي وقت لعدم توفر الدواء. لا نستطيع تناول الطعام أو حتى المشي وتلبية احتياجاتنا الإنسانية دون تناول هذه الأدوية”.
* أطباء متطوعون

في وسط منطقة النزوح بالمواصي، يجتهد الطبيب أحمد عيسى (27 عاما) في توفير بعض الأدوية والعلاجات المحدودة لتقديمها للمرضى خصوصا كبار السن والأطفال الذين تنتشر الأمراض بينهم على نحو غير مسبوق ينذر بكارثة وبائية.

يستقبل الطبيب مرضى العائلات النازحة على سرير خشبي مغطى بقطعة قماش خفيفة وُضع على أرضية رملية في خيمة تسندها بعض الألواح الخشبية وجريد النخل الذي تعلوه قطع النايلون اتقاء لتسرب مياه الأمطار. يطيل الطبيب الشاب في الاستفسار والسؤال عما يعانيه المريض ويكرر الفحص الظاهري كي يمنح نفسه قدرة أكبر على التشخيص لعدم توافر وسائل الفحص التقليدية المعمول بها في المراكز الصحية.

وبينما يكتسب الطبيب المتطوع، حاله حال بضعة أطباء آخرين يخدمون آلاف النازحين، خبرة واسعة في تشخيص الأمراض خصوصا بين الأطفال لتشابهها نتيجة عيشهم في ذات الظروف، فإنه لا يستطيع توفير أدوية لكل الحالات، فيلجأ لتوجيه بعض التوصيات العامة كزيادة شرب السوائل والتركيز على النظافة الشخصية وتقليل المخالطة بين الأطفال المصابين.

وبحسب الطبيب، تنتشر أمراض عديدة بين النازحين من مختلف الأعمار، ومن ذلك الأمراض الصدرية مثل الالتهاب الصدري ومشاكل الأنف والحنجرة والشعب الهوائية، وكذلك مشاكل الجهاز الهضمي والنزلات المعوية، فضلا عن انتشار الأمراض الجلدية كالجرب والحساسية لبعض أنواع الطعام، أو تلك الناجمة عن العيش في بيئة رملية أو زراعية مكشوفة.

ويُرجع عيسى معظم الأمراض لسوء التغذية والطعام غير الصحي والمياه الملوثة ومحدودية النظافة والاكتظاظ الكبير وصعوبة التأقلم مع انخفاض الحرارة قبالة شاطئ البحر. ويشير إلى أن 80 في المئة من أطفال النازحين تقريبا يعانون أمراضا متنوعة.

ويستطرد قائلا إن هناك عائلات بأكملها تواجه المرض مع محدودية الأطباء وبُعد المراكز الصحية، ما يهدد حياتهم جميعا جراء التأخر في التشخيص والعلاج ونقص الموارد الطبية في أماكن النزوح.

وهذا كله يعني الحكم على كثير من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة بالموت البطئ، ودخول الأطفال في مراحل وبائية وتدهور أوضاعهم الصحية على نحو يتطلب تدخلات طبية واسعة.

ودعا الطبيب الفلسطيني إلى إنقاذ الوضع وتوفير طواقم طبية متنقلة وكميات كبيرة من الأدوية في مناطق النزوح المنتشرة غرب خان يونس ورفح.

المصدر: وكالة أنباء العالم العربي