«طالبان» تتعهد بتغيير كابل… والبداية بتغيير نهج الحركة

يشعر بعض مقاتلي حركة «طالبان» الآن، بالندم على النجاح المادي الذي ضحوا به لشن حملتهم المسلحة، ويتذكر رحماني أن مقاتلاً آخر من الحركة أخبره بأنه حزين لأنه هو وشقيقه تركا دراستهما، وقال لرحماني: «لو كنا قد درسنا، لكنا نجلس في المكاتب الآن».

ولا توجد علامات تشير إلى أن هذه التغييرات قد أدت إلى تخفيف سياسات «طالبان» القمعية، لا سيما حملة الحركة ضد حقوق المرأة، ومما لا شك فيه أن هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو 5 ملايين نسمة، تشكل خيبة أمل بالنسبة لكثير من المقاتلين الذين هرعوا إلى العاصمة الأفغانية في شاحنات صغيرة عام 2021، ويقولون إن الحياة في المدينة أكثر إرهاقاً وأقل تديناً مما كانوا يتصورون، كما أنها تجعلهم يشعرون بالوحدة.

وقد نشأ بعض مقاتلي «طالبان» في العاصمة قبل مغادرتهم إلى الريف الأفغاني للانضمام إلى حركة التمرد، فيما لم يغادر البعض الآخر قط وظلوا يدعمون «طالبان» كمخبرين، ولكن بالنسبة لمعظم الرجال الذين سيطروا على العاصمة الأفغانية، فإن أضواء المدينة الساطعة لم تكن مألوفة، وشكّلت كابل تحدياً مليئاً بالإغراءات.

ويحلم رحماني بأن تصبح كابل يوماً ما المعادل الأفغاني لدبي، ذلك المركز التجاري البراق في دولة الإمارات العربية المتحدة، قائلاً: «بمجرد حل المشاكل الاقتصادية، ستتغير الأمور بشكل كبير».

وبدأ بعض أعضاء «طالبان» بالفعل في استحداث ذوق أكثر تكلفة، إذ يقول الباعة إنه في حين كان المسؤولون في الحكومة الجديدة يتسوقون في البداية لشراء الدراجات النارية، فقد باتوا الآن أكثر اهتماماً بشكل مزداد بشراء سيارات «لاند كروزر» البراقة.

ويبدو أن الحياة في المدينة قد تركت بالفعل بصمة على جندي «طالبان» عبد المبين منصور (19 عاماً) ورفاقه، إذ يتفق جميعهم على أن اتصالهم بالإنترنت، على سبيل المثال، هو أمر له أهمية مزدادة بالنسبة لهم.

ويقول عبد المبين ورفاقه إنهم باتوا مدمنين على كثير من المسلسلات التلفزيونية التي تكون مشاهدتها بشكل أفضل بدقة عالية، كما يفضلون حلقات دراما الجريمة التركية «وادي الذئاب» و«جومونج»، وهو مسلسل تاريخي كوري جنوبي تدور أحداثه حول أمير يغزو أراضي بعيدة، بحسب تقرير لـ«واشنطن بوست»، الاثنين.

وقال منصور إنه لا يزال يفضل الحياة في الريف، حيث يوجد بيته الذي قد يعود إليه في نهاية المطاف، مضيفاً: «لكنني آمل بشدة في أن تكون هناك كهرباء وغيرها من المرافق الحديثة الأخرى بحلول ذلك الوقت».

ويقول بعض الجنود، مثل حسام خان البالغ من العمر 35 عاماً، إنهم لا يستطيعون تخيل أنهم قد يضطرون إلى العودة للريف مرة أخرى، مشيراً إلى أنه واجه صعوبة في التكيف مع المدينة بالبداية، إذ كان يشعر بأن سكان كابل يخشونه، كما كانت عيناه تؤلمانه عندما كان يحدق في الكومبيوتر لفترة طويلة، ولكن الحصول على الكهرباء والماء، وحصوله على دروس اللغة الإنجليزية وعلوم الكومبيوتر، كل ذلك غيّر رأيه وجعله يقول: «أحب هذه الحياة».

ويقول بعض الأفغان الذين عارضوا استيلاء «طالبان» على الحكم، إنهم لاحظوا اختلافاً أيضاً، إذ يقول طارق أحمد، وهو بائع نظارات يبلغ من العمر 20 عاماً، إن لديه شعوراً مزداداً بأن «(طالبان) تحاول تبني أسلوب حياتنا نفسه»، مضيفاً: «لقد جاءوا من الجبال، ولم يتمكنوا من فهم لغتنا ولم يعرفوا شيئاً عن ثقافتنا».

وتابع: «عندما وصلوا إلى العاصمة استنكروا ارتداء الجينز والملابس الغربية الأخرى ودمروا الآلات الموسيقية»، لافتاً إلى أنه عندما وصل بالسيارة مع أصدقاؤه إلى إحدى نقاط التفتيش الأمنية، مؤخراً، وهم يسمعون الموسيقى داخل سياراتهم، لوَح لهم جنود «طالبان» بالمرور ببساطة.

وعلى الرغم من أن الملابس المدنية الغربية أصبحت مشهداً نادراً في شوارع كابل، فقد فوجئ بعض السكان برؤية رجال «طالبان» يرتدون الزي العسكري الذي يشبه بشكل ملحوظ ذلك الذي كان يرتديه أعداؤهم السابقون.

وعدّ أكثر من 6 موظفين لدى نظام «طالبان»، من الشباب وكبار السن، في مقابلات أُجريت معهم، أن السماح لهم بالتعليم كان أكبر مكافأة لكفاحهم، وقال لال محمد ذاكر (25 عاماً)، من مؤيدي «طالبان» والذي أصبح موظفاً بوزارة المالية الأفغانية: «عندما استولينا على كابل، تعهدنا بأن نصبح نسخة أفضل من أنفسنا»، مشيراً إلى أنه قام بالتسجيل في دورة مكثفة لتعلم اللغة الإنجليزية حتى يتمكن من الدراسة في الخارج يوماً ما.

ولكن المدينة الكبيرة لا تغري الجميع، فقد كان ذبيح الله مصباح وصديقه أحمدزاي فاتح، وكلاهما يبلغ من العمر 25 عاماً، من بين أوائل المقاتلين الذين هرعوا إلى كابل عام 2021، ولكن لا يزال مصباح يربط كابل في المقام الأول بـ«الأفعال السيئة» مثل الزنا، قائلاً: «نكون أكثر ارتباطاً بالله عندما نكون في القرية، فمع وجود عدد أقل من عوامل التشتيت، غالباً ما يكون المرء مشغولاً بالصلاة».

وتابع مصباح: «الروابط الاجتماعية في القرى تكون أقوى، والحياة هناك أقل شعوراً بالوحدة»، بينما يقول فاتح: «عندما تسعى إلى الجهاد، فإنك تشعر بالارتياح، ولكن عندما وصلنا إلى هنا لم نجد هذا الارتياح».

وبينما فر كثير من الأفغان من كابل أثناء استيلاء «طالبان» عليها، إلا أنهم عادوا مرة أخرى إلى العاصمة المزدحمة التي كانت عليها في السابق، إذ يستغرق الأمر عدة ساعات لعبور المدينة المليئة بالضباب الدخاني من جانب إلى آخر.

وأقر منصور وأصدقاؤه بأن الهواء الملوث والابتعاد عن عائلاتهم في الريف الأفغاني يجعلهم يعيدون النظر في الحياة بالمدينة، وقال منصور الذي لم يتزوج بعد: «إن الذين أحضروا عائلاتهم إلى هنا هم أكثر سعادةً منا، ولكن إيجار الشقق في المدينة باهظ الثمن والشقق صغيرة للغاية».

وعندما يحتاج جنود «طالبان» إلى الهروب من حياة المدينة، فإنهم يتسلقون تلة في وسط كابل، التي قام النظام الجديد بتثبيت علم عملاق للحركة فيها، أو يتوجهون إلى خزان القرغا الذي يوجد على مشارف المدينة، حيث يتناولون الفستق في شاحناتهم الصغيرة.

وبحثاً عن علامات الاعتدال، يقول سكان كابل، الذين راقبوا بخوف وصول «طالبان» في عام 2021، إنهم يأملون في أن يفوق عدد المقاتلين السابقين الذين يعتنقون حياة المدينة الكبيرة أولئك الذين يرفضونها، وأن تصبح «طالبان» أكثر اعتدالاً.

ولكن يقول كثير من النساء إنهن لم يلاحظن مثل هذا التطور، فلا تزال الجامعات مغلقة أمامهن، كما تُمنع الفتيات فوق الصف السادس من استكمال الدراسة، وتقول الأمم المتحدة إن القيادة العليا لحركة «طالبان» حولت أفغانستان من مدينة قندهار المنعزلة إلى الدولة الأكثر قمعاً للنساء في العالم.

وتقول رقية (25 عاماً): «(طالبان) لن تتغير»، مشيرة إلى أن المبيعات في الكشك الخاص بها في سوق الملابس النسائية انخفضت فجأة الشهر الماضي، بعد أن احتجزت وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تديرها «طالبان» النساء مؤقتاً بسبب مخالفة قواعد اللباس.

وتابعت رقية، التي حصلت على درجة البكالوريوس في الفيزياء قبل استيلاء «طالبان» على السلطة مباشرةً: «لم تعد فتاة من الفتيات تجرؤ على الخروج بمفردها»، لافتة إلى أنها عندما لا يكون هناك مَن ينظر إليها، تقوم بقراءة الكتب العلمية خلف مكتبها.

ولدى «طالبان» خطط كبيرة لإعادة الإعمار بعد الحرب، ولكن القيود المفروضة على النساء يمكن أن تصبح العقبة الأساسية، وقد تخلى كثير من المانحين الأجانب عن البلاد احتجاجاً على أوضاعها خلال العامين ونصف العام الماضيين، ولا يزال وجود المستثمرين من القطاع الخاص أمراً نادراً، فهل يمكن للإغراءات من ناطحات السحاب باهظة الثمن، والمساجد الجديدة والطرق الخالية من الحفر، أن تدفع «طالبان» إلى تقديم تنازلات في نهاية المطاف كما يأمل بعض الأفغان؟

في الأشهر الأخيرة، مضت «طالبان» قدماً في خططها لاستئناف العمل في مدينة نموذجية على مشارف كابل، التي تم تصميمها لأول مرة قبل أكثر من عقد من الزمن في عهد الحكومة السابقة المدعومة من الولايات المتحدة، ولكن لم يتم بناؤها، ويقول حميد الله نعماني، وزير التنمية العمرانية في حكومة «طالبان»: «سنطلق عليها اسم مدينة كابل الجديدة».

ويقول مقدم أمين، وهو مدير عملية البناء في المدينة (57 عاماً)، إن المناقشات الأولية بين شركته والحكومة الجديدة تشير إلى أن «طالبان» تريد مشروعاً أقل طموحاً مع خيارات سكنية أقل كلفة، ولكن يبدو أن «طالبان» الآن باتت تدعم الخطط الأصلية للمشروع، التي تشمل بناء ناطحات سحاب ومدارس وجامعات وحمامات سباحة ومتنزهات ومراكز تسوق.

وفي حال تم الانتهاء من بناء «المدينة الجديدة» في كابل، فقد يستغرق بناؤها عقوداً من الزمن، ولكن في الوقت الحالي، لا يمكن الوصول إلى المكان هناك إلا عبر طرق مؤقتة يصطف على جانبيها الطوب والأحجار، بينما يجلس المطورون العقاريون هناك على سجاد على الرمال.

المصدر: الشرق الأوسط