انتخابات روسيا تعزز هيمنة «الحزب القائد» وتفتح الطريق نحو استحقاق الرئاسيات

لم تخرج نتائج الانتخابات العامة في روسيا عن إطار التوقعات التي ساقتها مسبقاً استطلاعات الرأي العام في البلاد. ومع تكريس هيمنة الحزب الحاكم «روسيا الموحدة» في مجلس الدوما (النواب) وغالبية المجالس النيابية والبلدية في المقاطعات والأقاليم، بدا أن المشهد السياسي الداخلي الروسي اتجه نحو استبعاد المعارضة عن لعب أي دور في مرحلة مهمة تسبق التحضير لانتخابات رئاسة جديدة في 2024.
في المقابل، أعاد الاستحقاق ونتائجه الزخم إلى مسار المواجهة الروسية – الغربية، وأضاف إلى السجالات بين الطرفين عناصر جديدة ينتظر أن تؤجج الأزمة بينهما في المرحلة المقبلة، خصوصاً على صعيد التأثيرات المنتظرة على الوضع في أوكرانيا. ويكاد المحللون والخبراء في روسيا يجمعون على أن الأبرز في نتائج هذا الاستحقاق هو إعادة تكريس فكرة «الحزب القائد» التي غابت عن المشهد السياسي الروسي بعد تفكك الدولة السوفياتية العظمى في بداية تسعينات القرن الماضي. إذ احتل حزب «روسيا الموحدة» الحاكم، بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، المكان الذي كان يشغله لعقود الحزب الشيوعي السوفياتي، لجهة أنه ليس فقط القوة السياسية الأكثر قوة وتنظيماً وتمويلاً من الدولة، بل كونه يهيمن على كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد.

احتاجت روسيا نحو عقدين لإعادة تأهيل فكرة سلطة «الحزب القائد» المهيمنة ووضعها على سكة التنفيذ. لذلك؛ كان الشعار الأكثر تردداً خلال الحملات الانتخابية يقوم على وضع الناخب أمام خياري «الاستقرار والتنمية»، الذي تحرسه المنظومة السياسية والحزبية القائمة… أو «الفوضى والخراب»، الذي تحمله الأحزاب المرتبطة بالخارج والتي تسعى إلى زعزعة الأوضاع الداخلية وتمكين القوى الأجنبية من جرّ البلاد نحو الهاوية.
هكذا حرفياً تقريباً، ترددت العبارات والشعارات الانتخابية في البلاد خلال المرحلة التي سبقت الانتخابات. وهذا، مع تذكير مرشحي الحزب الحاكم في جولاتهم الانتخابية بأن «روسيا الموحدة» هو الحزب الوحيد الذي نجح في مواجهة الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وفي ضخ إمكانات واسعة لتخفيف معاناة المواطنين بسبب تداعيات تفشي «كوفيد – 19» وفي حماية «مبادئ» وأولويات الروس في مواجهة حملات التشكيك الخارجية.
هذا التوجه جاء بثماره، مستنداً إلى تصعيد الضغوط على المعارضة، وسحبها إلى خارج المنافسة بسبب تشديد القوانين وإدراج غالبية القوى المنافسة للحزب الحاكم على لوائح «التطرف»، أو في إطار قانون «العملاء الأجانب» الذي شل حركة أحزاب صغيرة كثيرة وأدى إلى إغلاق مقراتها وتجميد نشاطها.

– التوزيع المرتقب للقوى
لقد عكست النتائج التي أعلنتها رئيسة لجنة الانتخابات إيلا بامفيلوفا نجاح الحزب الحاكم «روسيا الموحدة» في المحافظة على هيمنة مطلقة في مجلس الدوما (النواب)، بحصوله على نحو 50 في المائة من أصوات الناخبين على اللوائح الحزبية. كذلك اكتسح مرشحو الحزب اللوائح الفردية، ليضمنوا فوزه بـ199 مقعداً من أصل 225، علماً بأن أعضاء الهيئة التشريعية الروسية الذين يبلغ عددهم 450 نائباً، ينتَخبون بالمناصفة بين اللوائح الحزبية والفردية. وهكذا، ضمن حزب «روسيا الموحدة» بذلك نحو 330 مقعداً نيابياً؛ ما يمنحه غالبية دستورية تمكّنه من سنّ القوانين منفرداً، ومن دون الحاجة إلى التحالف مع أحزاب أخرى.
أهمية هذا التطور تتضح أكثر، في إطار التعديلات الدستورية التي أقرّت في العام الماضي، والتي منحت البرلمان صلاحيات واسعة في مسائل تشكيل الحكومة وإقرار الموازنات وتعيين المسؤولين البارزين في الدولة. وهو ما يعني أن أي اقتراح يقدمه بوتين في هذه المجالات سيحظى بموافقة كاملة في الهيئة التشريعية.
أما ترتيب الأحزاب الأخرى التي نجحت في تجاوز نسبة الحسم للتمثيل في البرلمان فكان مجرد انعكاس لقدرتها على التعامل بنشاط، والإفادة من القيود الكثيرة على المعارضين، والمناخ السياسي العام في البلاد. لذا؛ لم يكن مستغرباً أن يحل «الحزب الشيوعي الروسي» في المرتبة الثانية، حاصداً أقل بقليل من 19 في المائة من الأصوات؛ ما عزز بشكل ملحوظ من حضوره. قد استفاد هذا الحزب من آلية «التصويت الذكي» (أو التكتيكي) التي ابتكرتها المعارضة لمواجهة نفوذ الحزب الحاكم عبر منح الأصوات لأوفر المرشحين حظاً في لوائح الأحزاب المنافسة له. واحتل المرتبة الثالثة «الحزب الليبرالي الديمقراطي» بحصيلة بلغت 7.5 في المائة من الأصوات، وهي النسبة نفسها تقريباً التي حصل عليها حزب «روسيا العادلة» الذي جاء رابعاً. وأما المرتبة الخامسة في هذه الانتخابات، فقد ذهبت لحزب جديد يشارك للمرة الأولى في انتخابات على المستوى الفيدرالي، هو حزب «الناس الجدد» الذي نجح في تجاوز نسبة الحسم للتمثيل في البرلمان، محققاً 5.3 في المائة من الأصوات. ولم يشكل هذا النجاح مفاجأة لأحد؛ كون استطلاعات الرأي كانت منحته تقريباً هذه النسبة نفسها. لكن الجديد أن هذا الفوز سيغيّر للمرة الأولى منذ أكثر من عقدين تركيبة البرلمان المقبل، بعدما ظلت الأحزاب الأربعة الكبرى مهيمنة عليه خلال العقدين الماضيين.

– إقبال نشط على الصناديق
كان طبيعياً أن تشكل نسب الإقبال المرتفعة نسبياً على صناديق الاقتراع، أبرز النتائج المعلنة لهذه الانتخابات، على خلفية مخاوف سابقة من عزوف الناخبين على الإقبال، خصوصاً بسبب حملات التشكيك من جانب المعارضة وبعض الأطراف الغربية.
وكانت التوقعات، وفقاً لاستطلاعات الرأي تدور حول استعداد نحو من 40 إلى 45 في المائة، للمشاركة بالعملية الانتخابية، لكن بامفيلوفا، رئيسة لجنة الانتخابات المركزية الروسية، أعلنت أن نسبة المشاركة الحقيقية وصلت إلى نحو 51.7 في المائة، مشيرة إلى أن «هذه النسبة تعد الأكبر منذ سنوات طويلة». ويشار هنا إلى أن نسبة الإقبال في الانتخابات البرلمانية السابقة عام 2016 بلغت 47 في المائة.
من ناحية أخرى، تميزت عمليات الاقتراع في هذا الاستحقاق بدخول عنصرين جديدين عليهما لم يستخدما في انتخابات سابقة، أولهما: مدّ فترة التصويت إلى ثلاثة أيام، في مقابل يوم انتخابي واحد في كل الاستحقاقات المماثلة في السابق. والآخر: استخدام آليات التصويت الإلكتروني. في الحالين كان المبرّر هو الظروف الوبائية المرتبطة بتفشي «كوفيد – 19». لكن في الحالين أيضاً، أثار ذلك تحفظات لدى الأحزاب المختلفة، بينها الأحزاب التقليدية المتنافسة مع الحزب الحاكم. وكان لافتاً أن الحزب الشيوعي، مثلاً، دعا أنصاره إلى تجاهل التصويت الإلكتروني، والإقبال على الاقتراع حضورياً في اليوم الأخير فقط، تحسباً لاستخدام أصوات ناخبيه لصالح الحزب الحاكم. ولكن، بصورة عامة، كانت نسبة الإقبال على الاقتراع الإلكتروني محدودة نسبياً ولم تتجاوز نحو مليونين ونصف مليون ناخب من أصل نحو 95 مليوناً، إلا أنه لكونها المرة الأولى التي تستخدم فيها هذه التقنية فهي تعد تطوراً مهماً.

– سجال حول عمليات المراقبة
وبعيداً من كلام أحزاب المعارضة الصغيرة المدعومة من الغرب عن وقوع «انتهاكات كبرى» سبقت العملية الانتخابية، وتمثلت في فرض قيود كثيرة على المنافسة؛ ما أدى إلى استبعاد المعارضة تماماً، فإن مسار عمليات الاقتراع نفسها، ومسار فرز الأصوات لم يشهدا انتهاكات فادحة. والحال، أنه نظمت عمليات مراقبة إلكترونية واسعة للانتخابات غطت عبر كاميرات المراقبة نحو 96 في المائة من مراكز الاقتراع في البلاد، وهذه أوسع عملية مراقبة على مدار الساعة للاستحقاق الانتخابي. وشارك في المراقبة داخلياً، نحو 400 ألف نسمة يمثلون الأحزاب المتنافسة ومنظمات اجتماعية وحقوقية روسية مختلفة، ومتطوعون في كل الأقاليم الروسية. وعلى مستوى المراقبين الأجانب، شارك نحو 250 مراقباً يمثلون أبرز المنظمات الإقليمية باستثناء مفوضية الأمن الأوروبي التي قاطعت العملية الانتخابية.
وبالتالي، يمكن القول – عموماً – إن الانتخابات أجريت من دون تسجيل انتهاكات ملموسة يمكن أن تؤثر على نتائجها. وهذا يثبته بشكل واضح أن الشكاوى التي قدّمتها الأحزاب المتنافسة حول وقوع خروق… بلغت نسبتها أقل بمرتين تقريباً نسبة الخروق والانتهاكات المماثلة في الانتخابات السابقة.
أما الحديث عن غياب المعارضة عن الانتخابات، وهو الأمر الذي استخدمته بلدان أوروبية والولايات المتحدة للتشكيك بالعملية الانتخابية ووصفها بأنها لم تكن نزيهة، فهو يدخل أكثر في دائرة السجالات السياسية بين الطرفين. وله أيضاً أبعاد قانونية، كون الغرب اعترض على ضم مكوّنات معارضة إلى لوائح «العملاء الأجانب» ما حرمها من المشاركة.

– ارتياح روسي واسع
في المقابل، برز الارتياح في الكرملين لنتائج الانتخابات، واعتبر الرئيس فلاديمير بوتين أنها «تعكس مزاج الروس»، شاكراً مواطنيه بشكل خاص على «تلبيتهم الواجب الوطني وأيضاً على الإقبال الكبير النشط على الصناديق».
هذا، وعلى الرغم من الفوارق النسبية التي أحدثتها النتائج في موازين القوى داخل البرلمان الجديد، لجهة اتساع حضور الحزب الشيوعي مثلا على حساب «الليبراليين الديمقراطيين»، كان لافتاً أن كل الأحزاب المهيمنة خرجت راضية. وحقاً لم تزد الشكاوى التي قدمتها هذه الأحزاب إلى لجنة الانتخابات المركزية عن احتجاجات محدودة التأثير على سير عمليات الاقتراع أو فرز الأصوات في بعض الأقاليم أو المجالس البلدية في مناطق نائية. ولقد عكس هذا الارتياح، واقعياً، أن كل الأطراف المشاركة في المشهد الانتخابي أدركت أن ملامحه معدة سلفاً… ولا فائدة ترجى من الطعن أو التشكيك. وهذا ما حمل مثلاً فلاديمير جيرينوفسكي زعيم «الحزب الليبرالي الديمقراطي» – الذي خسر نحو نصف حضور حزبه البرلماني السابق – إلى تأكيد رضاه عن النتائج، بل وفاخر بأنه «نجح بقيادة الحزب إلى البرلمان ثماني مرات متتالية»، وهذا برأيه «الإنجاز الأهم».
مقابل ذلك، برزت انتقادات واسعة لروسيا في أوروبا والولايات المتحدة. وندد الاتحاد الأوروبي بما وصفه بـ«مناخ الترهيب» إبان الفترة التي سبقت الاستحقاق، وانتقد غياب مراقبين مستقلين. وأيضاً ندّدت واشنطن بـ«ظروف إجراء الانتخابات»؛ مدّعية أن الروس «مُنعوا من ممارسة حقوقهم المدنية». وحملت عبارات التنديد الغربي مقدّمات أساسية لشكل العلاقة المنتظرة مع الغرب، علماً بأن الاتحاد الأوروبي فضلا عن تحفّظه على «تغييب» المعارضة، وضع مسألة التصويت في القرم ضمن أسباب التحفظ الأساسية على نتائج الانتخابات.

– تصويت شرق أوكرانيا
على صعيد متصل، ينتظر أن يشكل التصويت في شرق أوكرانيا مسألة خلافية متصاعدة. إذ لم تكتفِ روسيا في هذه الانتخابات بإجراء عمليات الاقتراع في منطقة شبه جزيرة القرم التي لا يعترف المجتمع الدولي بضمها إلى روسيا -، بل امتدت عمليات الاقتراع إلى إجزاء انفصالية في جمهورية أوكرانيا، تحديداً، في إقليمي لوغانسك ودونيتسك في شرق الجمهورية. وكانت موسكو قد نشطت خلال العام الأخير، في عمليات منح الجنسية الروسية للمواطنين الأوكرانيين في هاتين المنطقتين اللتين أعلنتا انفصالاً من جانب واحد عن أوكرانيا بدعم من موسكو. ووفقاً للمعطيات المتوافرة، حصل نحو 650 ألف مواطن في المنطقتين على الجنسية الروسية، وشارك في الانتخابات أقل بقليل من نصفهم.
وعليه، رأت أوساط أوروبية أن إقدام موسكو على أجراء «انتخاباتها» في الأراضي الأوكرانية المتمردة يشكل انتهاكاً واسعاً للقانون الدولي. وهو ما يرشح هذا الملف للتحوّل إلى عنصر سجالات متفاقمة لاحقاً. في حين اعتبر الانفصاليون الأوكرانيون، أن هذا «الاستحقاق» أطلق مرحلة مهمة وجديدة على صعيد «النضال» من أجل الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى «الوطن الأم» روسيا.
من جانبها، ترى أوساط روسية، أنه لن يكون بمقدور الغرب عمل الكثير للتأثير على الوضع الراهن بعد الانتخابات، وأن إعلان عدد من البلدان الغربية رفضها نتائج الانتخابات في القرم، لا يعكس الرغبة أو القدرة على رفض الاعتراف بمجمل العملية الانتخابية؛ لأن أمراً كهذا سيؤدي إلى تداعيات سياسية كبرى، منها رفض التعامل مع البرلمان الجديد، وهذا تصعيد لا تبدو البلدان الأوروبية، على الأقل، مستعدة له.

المصدر: الشرق الأوسط